ستة عقود وزيادة مرت على نكبة الشعب الفلسطيني عام 48 ، النكبة التي اغتصبت وطنهم وقتَّلتهم ، وأخرجتهم من ديارهم بغير حق وحولتهم إلى لاجئين ؛ فهاموا في الشتات مشرَّدين مهجَّرين مجرَّدين من كل أشكال الحماية ، محرومين حقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي أخرجوا منها ، يواجهون حملات مستميتة لقتل الأمل به فيهم .
طالت سنين النكبة عليهم وتواصلت سنة في إثر أخرى ، حتى تجاوز عددهم اليوم سبعة ملاين ينتشرون في بقاع الأرض ، وأصبحوا أكبر مجموعة لاجئين على مستوى العالم ، وقضيتهم أقدم قضية لجوء بين الشعوب المعاصرة.
وقبل أن يستيقظ الفلسطينيون من آثار النكبة تلك حلت بهم نكبة جديدة ، ففي عام 67 وقعت البقية الباقية من أرضيهم في براثن الاحتلال الغاشم بما فيها ما بقي من مدينة القدس المباركة ، لتتعاظم مأساتهم وتتضاعف معاناتهم ، فأجبروا ثانية على النزوح من ديارهم ، في صورة أخرى من صور اللجوء والتهجير المتعددة التي يتعرض لها أبناء شعبنا الفلسطيني منذ النكبة وحتى اليوم .
ومرت على هذه المصيبة عقود أخرى جرت فيها أحداث وتغيرات وتطورات ، وتواصلت فيها ثورات المقاومة والتحرير ، فازداد الفلسطينيون إيماناً بقضيتهم فحملوها في قلوبهم وضمائرهم ؛ فهي عنوان وجودهم .
مضت كل هذه العقود ؛ ومازالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي ماضية في إجراءاتها التعسفية ضد شعبنا ، وفي تنفيذ خطواتها التآمرية لتهويد المدينة المقدسة ولتقويض المسجد الأقصى المبارك ، وفي تفريغ الأرض من أهلها لإحلال المغتصبين مكانهم ، وفي ارتكاب جرائم الحرب ضد الإنسانية دون رادع بدليل هجماتها الدموية قبل أيام ضد المتظاهرين الوطنيين في ذكرى النكبة والنكسة التي سقط فيها عشرات الشهداء .
مضت العقود ، ورغم انعقاد المؤتمرات وإبرام الاتفاقيات والمشاركة في المفاوضات والتفاهمات ، إلاَّ أن خطوة واحدة لم تتقدم إلى الأمام على طريق إنهاء الاحتلال أو نيل الحرية والاستقلال ، لا بل ازدادت إجراءات الاحتلال القمعية وممارساته الإرهابية ، وتضاعفت اغتيالاته للمدنيين العُزَّل ؛ يجري ذلك كله بدعم غير محدود من الإدارة الأمريكية وممن ينضوي تحت لوائها ويسير في ركابها من الدول الأوربية ، يجري ذلك كله أمام سمع الأمة وبصرها فلا تحرك ساكناً ، فقد كانت بالأمس تجاهد وتناضل معنا وتدعمنا ، ثم ضعفت همتها وتغيرت وِجهتها فصارت تكتفي بالشجب والاستنكار والتنديد ، أما اليوم فقد كلَّت وملَّت واكتفت بالتثاقل ثم التجاهل وكأن الأمر لا يعنيها أبداً ، وبالأخص أنها اليوم مشغولة بشؤونها الداخلية ، مما أدى إلى عزل القضية عن بُعدها وعمقها العربي والإسلامي .
فالواجب علينا إذن أن نحافظ لقضيتنا على بُعْدِها العربي والإسلامي والإبقاء عليهما حيين نابضين ، فهما يشكلان العمق الحقيقي لنا ، والدعم الحقيقي لقضيتنا ، والتواصل الحقيقي مع حقوقنا المشروعة .
فقضية فلسطين والمؤامرات التي تتهدد المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة والاقتحامات اليومية الاستفزازية من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة في ساحاته تمس المشاعر الدينية لكل عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها ، لأنها جزء من عقيدته ودينه ، فقد ثبتت إسلاميتها وقدسيتها بقرار رباني ، قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}الإسراء 1 . والمخططات التي تنفذ في القدس وفي محيط المسجد الأقصى المبارك تدل بوضوح على خطر حقيقي ؛ يستوجب على أبناء الأمة جميعاً القيام بأوجب الواجبات المفروضة عليهم في نصرتها ودفع الخطر الداهم المحدق بها .
أما المجتمع الدولي فساكت صامت جامد ، أصم أبكم لا يقدر على شيء أبداً ، ولا يأتي بخير أبداً ، ومنظماته وهيئاته خاضعة للقوة الأعظم ، فسرت إليه حمى الكيل بمكيالين في تعامله مع قضايا العالم وحقوق الإنسان .
فالعالم كله يدرك بما لا يدع مجالاً للشك أن الكيان الإسرائيلي هو الوحيد الخارج على قرارات المجتمع الدولي بمنظماته وهيئاته على الرُّغم من عضويته فيها ، وهو الوحيد في العالم الذي يتحداه ويضرب عرض الحائط بقراراته ومواثيقه واتفاقياته ، يجري ذلك كله على مرأى منه ومسمع ، إلا أنه لا ينبس ببنت شفة ، ولا يجرؤ على مساءلة سلطات الاحتلال الإسرائيلية أو ملاحقتها أو معاقبتها .
ففي القرن الماضي صدرت عن عصبة الأمم ثم عن هيئة الأمم وجمعيتها العمومية وعن مجلس الأمن ؛ قرارات عديدة جداً حول القضية الفلسطينية ومدينة القدس على وجه الخصوص ، إلا أن إسرائيل لم تعبأ بها من أول يوم .
فعلى سبيل المثال صدر عن هيئة الأمم المتحدة في عام 1947 القرار رقم (181) وهو قرار التقسيم الذي نص على إنشاء دولتين مستقلتين في فلسطين ، وفي عام 1948 صدر القرار رقم (194) الذي ينص على ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم . وفي عام 1967 صدر القرار رقم (2253) الذي ينص على بطلان قرار ضم القدس إلى الكيان الصهيوني بعد عدة أيام من سقوطها تحت الاحتلال ومانعاً إحداث أي تغيير في وضعها . وفي عام 1980 صدرت قرارات تصف إسرائيل بأنها دولة احتلال وتوجب عليها الانسحاب الكامل وغير المشروط من جميع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة منذ حزيران 1967 بما فيها القدس ، وفي عام 1997 صدر قرار يؤكد عدم الاعتراف بالإجراءات الإسرائيلية في مدينة القدس المحتلة والأراضي الفلسطينية .
وأما مجلس الأمن الدولي ؛ فعلى الرغم من الفيتو الأمريكي إلاَّ أنه أصدر عدة قرارات ، ففي عام 1968 صدر القرار رقم (252) الذي نص على بطلان جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والأعمال التي قامت بها إسرائيل وبضمنها مصادرة الأراضي والممتلكات وتغيير الوضع القانوني لمدينة القدس ، وفي عام 1980 صدر القرار رقم (476) الذي نص على ضرورة إنهاء احتلال القدس ورفض أي تغيير في وضعها . ثم تلاه القرار رقم (478) الذي بعدم الاعتراف بالقانون الأساسي الإسرائيلي فيما يخص القدس لمخالفته اتفاقية جنيف بشأن الأراضي الفلسطينية .
ومقتضى نصوص هذه القرارات ـ بالإضافة إلى نصوص الاتفاقيات والمواثيق الدولية ـ التزام المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان والهيئات مناصرة الشعب الفلسطيني والمدافعة عن حقوقه والمطالبة بها أمام جميع المحافل الإنسانية والقضائية ؛ إلاَّ أن شيئاً من ذلك لم يكن ، فلم نسمع عن المطالبة بتشكيل محكمة دولية بشأن جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء شعبنا وإرهابه المنظم ضدهم ، ولم نسمع بتكليف لجنة دولية للتحقيق في المجازر التي ترتكبها بحق أبناء شعبنا المحتل ، ولم نسمع من يطالب بفرض العقوبات الدولية على دولة الاحتلال لحملها على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ، حتى اللجنة الدولية اليتيمة التي تقرر تشكيلها لتقصي الحقائق في جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلية في مخيم جنين عام 2002 لم تتمكن من أداء عملها .
ولهذا تمادت إسرائيل وتطاولت ، وطغت وبغت ، ودعمت جندها ومتطرفيها بالكامل لتنفيذ العدوان بكل صوره على شعبنا ومقدساته بحرقها وانتهاك حرمتها وتدنيس قدسيتها .
لكننا على يقين من الحقيقة التاريخية الثابتة ، أن القدس لا يعمر فيها محتل أو ظالم ، فرُغم خضوعها للاحتلال المتكرر ، إلا أن التاريخ يسجل بشرف وتشريف قدرة أهلها العرب والمسلمين على تحريرها ، فالملك الناصر صلاح الدين الأيوبي مثلاً كتب ملحمته الرائعة باستردادها من أيدي الفرنجة قبل تسعة قرون تقريباً . وهذا برهان آخر على صدق من قال { إن الاستعمار مجرد جملة معترضة في حياة الشعوب } لأن إرادة الحياة والتحرير لديها حاضرة دائماً ؛ والشعوب هي التي تحدد ساعة استدعاء هذه الإرادة بالثورة والمقاومة لنيل الحرية والكرامة .
وقبل ذلك قال تعالى مخاطباً بني إسرائيل ومؤكداً عودة المسجد الأقصى المبارك إلى أهله {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}الإسراء7 .
فمهما عظمت التضحيات ، ومهما ازدادت التحديات ؛ فسيطلع الفجر ولا ريب ، وسيأتي النصر ولا ريب ، فإن ليل الاحتلال إلى زوال ، وسيفرح هذا الشعب بالحرية والاستقلال ، وسيفرح بنصر الله ، قال تعالى {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا}المعارج 6-7 ، وقال تعالى { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}الإسراء51 .