المشهد الثقافي في الضفة الغربية
د. رمضان عمر
لا يختلف المشهد الثقافي الفلسطيني عن المشهد السياسي الفلسطيني المواكب لقضيتين متناقضتين: يمثّل أولاهما ما نشأ في محيطنا العربي من ثورات شعبية، تحاول إعادة ترسيم الواقع العربي، وفق رؤية ترفض منطق التبعية والتهويد، وتصر على إشعال الذاكرة الجمعية بأبجديات التشكل الوطني. ويمثّل الثانية انعكاس مرفوض لواقع التشرذم المفروض على جبهتي الوطن الفلسطيني المحتل.
الثقافة في ظل المتغيرات:
الثورات العربية كانت محطة ارتداد مهمة، نقلت التفكير الثقافي الفلسطيني إلى مربعه الأول بعد أن حاولت جهات رسمية عديدة حرف مسار الهوية الفلسطينية الثقافية، والنأي بها بعيداً عن متطلبات المرحلة وتذويب الخيارات الفكرية المتعددة في خيار واحد يبحث عن هزليات تحاول - باستماتة - أن تصور الواقع الفلسطيني باعتباره واقعاً حضارياً يعيش لحظة انتعاش وتطور، فكثرت المسارح الراقصة، والأنشطة المفرغة من قيمها الوطنية، واستُدعيت الفرق المسرحية والغنائية الغربية لتقوم بدور المفعل للنمط الثقافي المقصود. لكن انطلاق الثورات أعادها إلى حالة من التهيؤ النشط، والاستشراف القوي لدور أكثر فاعلية يعتمد على منطق إرادي شجاع، وبعث روح التفكير الثوري الإبداعي، وكيف لا يتم ذلك والمحرك لتلك الثورات اعتمد في أساسه على بيت الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
وإرادة الشعب الفلسطيني للحياة إرادة واعية وفاعلة، رغم محاولات السحق والإبادة. من هنا، نشطت حالة من التعبير المنسحم مع المحيط المتشكل، تمثل ذلك في عدد كبير من التصاميم الفنية والعروض المسرحية، والكتابات الإبداعية.
ولا بد من أن نشير إلى الطابع السلمي لهذه الثورات وشموليتها؛ بحيث يمكن القول إن الشعوب العربية انخرطت بها من دون أن ترفع شعارات طائفية أو حزبية جعلت هذا الأثر اختراقياً بامتياز للذاكرة الفلسطينية، ما مهد الطريق أمام إمكانات حقيقية لرأب الصدع وإيقاف عجلة الانزلاق التي تهاوت بتسارع مخيف.
ولا بد أن نشير ـ أيضاً ـ إلى قضية مهمة، ذلك أن التأثير الثقافي للفعل السياسي لا يقع ضمن دائرة التحول السريع، لكنه يعيد هيكلة منطق التفكير؛ فالخوف الذي سكن منطق الفعل الثقافي في فلسطين تبدد إثر هذه الثورات، وارتفع الصوت الصاخب الرافض لمنطق التمييع أو( التجحيش) والناي، وأصبحنا نسمع صدى فنياً واستجابة حقيقية لنداءات التغيير. ولا أعتقد أن شيئاً له قدرة على التأثير الثوري السلمي مثل الثقافة. أليست الشعارات والهتافات والنشيد هي الوقود الثوري لهذه الثورات؟
من هنا، انعكس هذا على الحالة الفلسطينية عبر نداءات جريئة في (الفايس بوك) والمواقع الأخرى، شبابية التكوين ثقافية التشكيل، تنادي بكسر ذاك الجليد والوقوف على عتبة صلبة تعنى بحقائق التميز لا بشكليات الوهم، كما يريد كثير من المنتفعين.
الانقسام السياسي وأثره على الثقافة:
أما من الناحية السياسية الفلسطينية البحتة، فما زال الفلسطينيون يعيشون واقعاً سياسياً مأزوماً، فرضته الفرقة بين شقي الوطن
(غزة/ الضفة) وفق رؤيتين متعاكستين، تحاول إحداهما إقصاء الأخرى، وفرض ثقافة ذات بعد انفرادي.
من هنا، فإن المشهد الثقافي في فلسطين خليط من متناقضات تحمل بذوراً متعددة للتغاير الفئوي من نحو، وبذور أخرى للتجديد النوعي في الرؤية لدى جيل يصر على كسر الجليد الرتيب في معادلة جدية مبشرة إلى حد كبير.
وإذا كان هذا التمايز يعكس حالة من التشرذم أحياناً، فإنه يعكس ـ أيضاً ـ حالة المعركة الثقافية الفاعلة بين مشاريع ينحاز الوطن إلى إحداها دون الأخرى. فثمة إصرار على ترسيخ ثوابت الفعل المقاوم من خلال أعمال ثقافية ذات بعد فني بديع كما في مهرجان الشباب والحرية الدولي للأفلام التسجيلية في غزة، حيث استُقبل ما يزيد على 250 فيلماً تسجيلياً من فلسطين ومن عدة دول عربية وأجنبية، فكان من بينها 20 فيلماً دولياً، و132 فيلماً من قطاع غزة، 48 من الضفة الغربية، إلى جانب 32 فيلماً من جمهورية مصر العربية، و32 فيلماً إيرانياً.
هذا الواقع الثقافي المنسجم مع الواقع السياسي الذي فرضه الحصار البليد حول غزة، فيشير إلى طبيعة كفاحية لدى هؤلاء الذين يغرسون جدر التشكيل الإبداعي رغم المعاناة والحصار.
لكن الصورة في الجهة المقابلة لا تبدو منسجمة مع نفسها، ولا مع محيطها أو مداها؛ فالتركيز على الأزياء الفلسطينية، ضمن مهرجانات شبابية، أو العمل على تسويق بعض (الكليشيهات) الفاترة، من نحو أكبر صدر كنافة أو طبخة (مسخن)، تكشف عن محاولة لتذويب مفهوم الفعل الثقافي الفاعل وتحويله إلى ميوعة لا تثير غضب المحتل انسجاماً مع المواقف الرسمية التي لا تثيرها استهدافات المستوطنين المتكررة للمساجد والمزارع.
فالتغني ببرنامج ثوري ضمن (كرنفالات) شكلية لا يعكس بالضرورة حالة التشكل الثقافي الواقعية. فالمشهد الفعلي للحدث المبرمج هو الأساس في ترتيب الهوية الثقافية؛ فبرامج البث الرسمي الفلسطيني تصر على رؤية تغريبية لا تنطق بلسان الأمة، ولعل انتقادات كثيرة قد وجهت إلى هذا النمط المرفوض من التبشير الثقافي.
من هنا، نقول إن الواقع الثقافي في الضفة الغربية تأثر مباشرة بمنطق الفعل السياسي المسيطر، ويمكن سرد بعض الحقائق التي تحدد مواصفات هذا الواقع المأزوم:
· أولاً، على المستوى الوظيفي: هناك إقصاء فعلي على أساس حزبي، وتغييب واضح للصوت الآخر. فالمناصب الحساسة العليا أضحت حكراً على من ترضى عنهم السلطة؛ فالنقابات والاتحادات والوزارات والمؤسسات تكاد تكون مقصورة على أبناء فتح ومن اقترب من خياراتهم السياسية. والنشاطات الثقافية غير مسموح بها، إن لم تنطلق من رغبة الحاكمين هنا، ما جعل الصوت المنفرد المغرد في الميدان صوت السلطان الحاكم، وجعل الحركة الثقافية الفعلية تقاد بخيار سياسي يقوم على إبعاد الآخر وتخوينه.
· - ثانياً، على المستوى الإعلامي: مثّل الإعلام حالة من (اللاتعافي) في الضفة بعد أن أصبحت تهمة التعبير عن الرأي تهمة قد يلاقي صاحبها حتفه. وقد تمثّل ذلك بوضوح في سجون السلطة، حيث قضى غير واحد نحبه داخل أقبية التحقيق، وخفيت ملابسات قتله وطويت، ولم يستطع الإعلام أن يحقق في هذه القضايا المزلزلة.
· ثالثاً، الثقافة الدينية: من أكثر القضايا وضوحاً في الضفة الغربية، تغييب الصوت الديني وإسكاته وإبداله بثقافة تقلل من شأن الدين وأثره في حياة الناس، فحوصرت المساجد، وروقب الخطّاب والوعّاظ، وأغلقت دورات تحفيظ القرآن، بل تعاملت السلطة مع كل من يحفّظ الناس القرآن - من دون إذن - كمن يحمل سلاحاً، وزُجّ بالعشرات من المحفّظين في السجون، وأغلقت كافة الدور واللجان المتابعة لهذا الشأن.
· رابعاً، الجامعات والمدارس والتعليم: الواقع التعليمي الفلسطيني واقع مهزوم أكاديمياً تفشت فيه السلوكيات غير المنضبطة، والتوظيف الذي لا يقوم على مهنية ومعيارية، وتفشى الإهمال الملحوظ لدى جيل المتعلمين في المرحلتين الجامعية والمدرسية؛ لضعف الأثر التربوي في نفوس الصغار، ووجود انفتاح غير منضبط لا تراعي فيه الجهات المسؤولة خطورته على الجيل الشبابي.
· لكن هذه السوداوية، وإن كانت حارقة مؤذية، إلا أنها لا تمثّل أساساً للتكوين الثقافي، بل هي مرحلية، باعتبارها مفروضة ضمن قراءة المشهد السياسي؛ فالطاقات المكبوتة الواعية لديها في جعبتها من يمكن من خلاله أن يعيد القاطرة إلى السكة.
·
· ولا بد أن نشيرـ أيضاً ـ إلى قضية مهمة؛ فمع أن مفاصل الحياة الثقافة أصبحت رهينة للخيار السياسي المتحكم، إلا أن منظومة القيم تلك لم تعد متماسكة، بل إن الأكثرية المثقفة في الضفة لا ترى في هذا التشرذم والإقصاء والغربة الموغلة في انسحاقها منطقاً مقبولاً؛ فثمة تململات متضاعفة في ذلك الوسط الثقافي، تبشر بانفراجة حقيقية مع تنامي فرص المصالحة.
· ولعل جملة من تلك المبشرات يمكن لمسها في بيان وزارة الثقافة عن اليوم الثقافي الوطني لعام 2011 الذي حمل "أبعاداً جديدة من إرادة التحدي، ومن قيم الانتماء والالتزام... وضمن مواجهة متواصلة من جيل إلى جيل، لسلسلة من التحديات المصيرية التي فرضتها مراحل الصراع الطويل مع المخطط الصهيوني الاستعماري الذي كانت ذروته نشوء إسرائيل في عام 1948، على معظم أراضي وطننا فلسطين، وما تبع من احتلالها الاستيطاني للبقية الباقية من هذه الأراضي في عام 1967، تعززت المكونات المركزية لثقافتنا الوطنية، باعتبارها ثقافة مقاومة، وثقافة صمود، وثقافة حياة لا تتوقف عند شرائح مثقفة بذاتها، بل تتجاوز هذا التعريف التقليدي للمعنى الثقافي، إلى كونها نسيجاً كلياً لثقافة شعب بأكمله، في جميع شرائحه وفئاته".
·
هذا الإصرار على الثوابت يحتاج إلى ترجمة عملية فاعلة ضمن خطوات عملية تتيح المجال لثقافة مصالحة وثقافة ثوابت، وإعادة رصد المشهد والسماح للمدخلات الساندة في رص الصف بأن تأخذ موقعيتها في اللوحة المستقبلية، لتقوية الخطاب المنضبط والحد من خطاب الترهل والانزلاق، وتسخير الطاقات الإبداعية لتساهم بقدراتها في إكمال الصورة الناقصة كما بينّا سابقاً.
******* |