لم يكن ليصدق أنه سيترجل عن صهوة الحياة من دون الرجوع إلى قريته سحماتا، لهذا كتب عنه طلال سلمان في جريدة السفير في يوم وفاته «أبو ماهر اليماني يمشي نائماً إلى سحماتا».
بعد أكثر من سبعين سنة من النضال الفلسطيني، غادرنا أبو ماهر اليماني. بعد مسيرة مميزة بدأها نقابياً في فلسطين، مقاتلاً وأسيراً في حرب النكبة.
كان قوياً باستقامته، غنياً بنزاهته، شامخاً بتواضعه، حازماً بإخلاصه، راضياً بمهماته، سعيداً باضطهاده، عاشقاً لفلسطين، عاملاً للحظات الأخيرة من حياته من أجل العودة الحرة والكريمة والكاملة، رافضاً الاعتراف بالاحتلال.
أذكر أول مرة رأيته فيها، حين كان أمين سر اللقاء الثقافي الفلسطيني، يأخذ الأسماء ويرتبها للمداخلات، فاجأني تواضعُه وانخفاض صوته، وخصوصاً أنني قرأت عن صرامته وحزمه وانضباطه الثوري، فبنيت له في مخيلتي صورة مارد.
كان ضمير الثورة، حين بدأ العمل العسكري من دون استئذان أحد، وحين جمّد عضويته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عند إعلانها النقاط العشر في عام 1974.
كان ضمير فلسطين واللاجئين، حين أصرّ على كامل التراب الفلسطيني، ورفض التنازل عن حق العودة إلى قريته «سحماتا» خصوصاً، وكل فلسطين عموماً. كان لاجئاً مناضلاً، عانى التوقيفات الكثيرة التي بلغت 55 مرة خلال جولاته على المخيمات الفلسطينية، رغم أنه من أكثر الذين استحصلوا على تصريحات التنقل من الجيش اللبناني في الخمسينيات والستينيات، وبقي محتفظاً بها يعيرها للباحثين بشؤون اللاجئين، الذين استخدموها وثائق في كتبهم.
هو المعلم الذي أنشأ المشروع المدرسي النموذجي من عين الحلوة إلى بعلبك إلى بيروت، وهو صاحب القسَم الشهير لتلاميذ مدارس الأونروا «فلسطيننا لن ننساك.. ولن نرضى وطناً سواك.. نعاهد الله والتاريخ أن نستردك.. وإننا لعائدون عائدون عائدون». وكان الطابور الصباحي يدير وجهه نحو فلسطين جنوباً، ويرفع كل تلميذ يده اليمنى ملقياً هذا القسم، وبعد الدوام المدرسي كان يجول في أحياء المخيم مع عدد من المعلمين يزور البيوت ليطمئن إلى دراسة تلاميذه. وهناك أسس الكشاف العربي الذي كان يتابع تدريبه على القتال بالعصيّ في حد أدنى وأولي للقتال في سبيل العودة، ومن هذا الكشاف تكوّنت النواة الأولى من المقاتلين في حركة القوميين العرب.
ثم تابع مهمته التعليمية في بيروت، بإدارة مدارس الأونروا، إلا أن افتقار الأونروا إلى مدرسة ثانوية، دعاه إلى العمل على تأسيس مدرسة ثانوية قرب مخيم برج البراجنة، فكان صاحب فكرة المشروع التربوي الرائد «مدرسة مبرة الملك فيصل» التي عرفت باسم «السعودية»، وكانت مدرسة عالية المستوى للاجئين الفلسطينيين.
وعند انطلاق العمل الثوري، سلّم أبو ماهر المشروع، وتابع مسيرته النضالية كأحد مؤسسي حركة القوميين العرب التي نشأت من رحمها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تسلم فيها الإدارة المالية (وهو الذي توفي من دون أن يملك بيتاً أو سيارة، وكان يقف في عيادة الأونروا منتظراً دواء السكري المجاني كغيره من المواطنين). ثم أصبح مسؤول العلاقات السياسية والدولية، فالتقى قادة العمل الثوري في العالم، من ماوتسي تونغ وشو إن لاي إلى فيديل كاسترو وتشي غيفارا، إلى هوشي منه والجنرال جياب. لم يطلب مالاً أو مناصب منهم، بل طلب تدريب الفلسطينيين من أجل القتال والعودة.
طلبت منه إجراء مقابلة نتناول فيها الأوضاع الفلسطينية، فأجابني أنه في هذا الزمن الذي يحاصرنا بكل رديئة وانهيار القيم والثوابت أُفضّل السكوت. وفهمت منه أنه لا يريد أن يلطخ مسيرته بمناكفات مع بعض المطبلين والمصفقين لأوسلو. يومها كان يجلس معه بضعة رجال باحترام وإنصات وقد جاوزوا الستين من أعمارهم، لقد كانوا تلاميذه في الخمسينيات، وبقي المعلم!
وفي آخر تكريم أقامته له «منظمة ثابت لحق العودة» و«شباب ترشيحا»، فضّل أن لا يتكلم، لكنه بكى تأثراً حين قدمت له حفنة من تراب بيته المهجور في سحماتا، أرسلها ناشطون فلسطينيون إليه في مناسبة تكريمه، فأبكى الحضور، (هذه الحفنة رُشَّت على كفنه عند دفنه، في مشهد غريب ساده صمت مفاجئ حينها، كأن الحضور –وكنتُ منهم- ينتظرون نتيجة تفاعل التراب بجسده).
قليل على أبو ماهر اليماني لقب «ضمير الثورة»، وأعتقد أنه جسَّد عدداً من المثاليات التي باتت غريبة على قادة هذا الزمان، كرفضه الإغراءات والعطاءات على أنواعها، حتى رفضه وجود مرافق خاص له يقود السيارة، وكنا كثيراً ما نراه يمشي المسافات الطويلة نسبياً وحده بتواضع لا يثقله تاريخ كبير.
أبو ماهر اليماني لا يفيه إلا لقب «أبو ماهر اليماني».
المصدر : مجلة العودة