يومان حافلان باللقاءات والزيارات الميدانية، لخّصا المشهد المأساوي الفلسطيني في لبنان، بكل تفاصيله وأبعاده.
هذا ما حصل مع الوفد البرلماني الأوربي والبريطاني، الذي زار لبنان في السابع والثامن من شباط (فبراير) من هذه السنة، بترتيب من مركز العودة الفلسطيني في لندن، ومجلس العلاقات الفلسطينية الأوروبية في بروكسل، ومنظمة «ثابت» في لبنان.
تجوّل الوفد في مخيمات اللاجئيين الفلسطينيين في برج البراجنة وصبرا وشاتيلا، وسافر شمالاً ليرى ما حصل في مخيم نهر البارد المدمّر، وتابع عملية إعادة الإعمار هناك.
لا يحتاج الموضوع إلى البحث بين السطور أو في خفايا الأمور. فتجلِّياته المحزنة والصادمة واضحة، وتضمن بقاءها حاضرة في ذهن وواقع كل من سنحت له فرصة المشاهدة والمعاينة.
تظهر فصول المعاناة جليّة بين أزقة مخيم برج البراجنة، التي لا ترقى لان تكون ممرّاً ضيِّقاً بين غرفتين في شقة سكنية؛ عوضاً عن أن تكون شارعاً عامّاً لقاطني المخيم لا يصله نور الشمس. يزيد الأمر رعباً مع ظلال أسلاك الشبكة الكهربائية المكشوفة أحياناً، والتي تغذِّي المخيّم وتعلو رؤوس المارّة بسنتميترات قليلة في بعض الأماكن. الجوّ الماطر في ذلك اليوم جسّد هول الموقف وفسّر أيضاً قضاء أربعة عشر من أبناء المخيّم صعقاً خلال السنة الفائتة. إنها ليست مأساة يوم ينقضي؛ بل هي عذابات ستة عقود ممتدّة الى مستقبل مجهول لأصحابه، يخشون دائماً من قدوم الأسوأ.
الأسوأ رأى جزءاً منه أهالي مخيم نهر البارد الذين دفعوا ثمناً لجريمة لم يرتكبوها، واستنكروها قبل غيرهم، فكان أن تحوّل مخيّمهم جراءها إلى أطلال. كلّ ما ساقه الأخوة اللبنانيون من أسباب لا يبرِّر على الإطلاق هول ما حصل في المخيم. ضحايا الجيش اللبناني الذين سقطوا هم بلا شك ضحايا الشعب الفلسطيني أيضاً. فكلّ الجيوش العربية تُعَدّ ذخراً استراتيجياً للشعب الفلسطيني وقضيّته. ليس مفهوما ما يعانيه أهل المخيم والأوضاع المعيشية؛ وخاصة الظروف السكنية والصحية. من مفارقات سوء ما يلقاه فلسطينيو نهر البارد تجدها في مقارنة بسيطة بين مشروع مقرّ مركز الشرطة جيِّد الإنشاء والمُموّل أمريكياً، والذي يخفر المخيم، وبين العنابر التي تعيش فيها العائلات باكتظاظ والتي تبعد أمتاراً عنه. لا أظنّ أنّ غرف تلك «البركسات» ترقى لأن تكون مأوى للحيوانات في بعض الدول الغربية.
فرصة نادرة زمنياً تحققت للوفد بلقاءات مع رئاسات أربع في الدولة، في فترة انتقالية بين حكومتين. ما ردّده الرؤساء سليمان والحريري وميقاتي وبرِّي ممثلاً بنائبه، وأعضاء مجلس نيابي آخرون، وكذلك وزير الخارجية؛ يكاد يكون متشابهاً في تضامنهم مع فلسطينيِّي لبنان ودعمهم لحقّ عودتهم إلى أرضهم وديارهم في فلسطين، وفي إقرارهم بمعاناتهم القائمة. تمّ ذلك الإقرار مع لفت نظر ضيوفهم إلى حساسية الوضع الداخلي اللبناني، وأنّ هناك أوضاعاً سيِّئة لبعض اللبنانيين تكاد تُساوى بأهل المخيّمات. لا يستطيع الشعبان الفلسطيني واللبناني أن يغيِّرا التاريخ ولا الجغرافيا. فهما جاران وسيبقيان كذلك. ولم يختر فلسطينيو لبنان مقرّ لجوئهم، ولا أظنهم راغبين في البقاء حيث هم اليوم. وقد آن الأوان لمراجعة شاملة لطريقة التعامل معهم من قبل أشقائهم المضيفين، الذين يجب أن نقرّ أنهم عانوا كما عانى الفلسطينيون، وتعرّضوا لهجوم وحشي إسرائيلي لم ينقطع طوال ستين سنة خلت.
لعلّ أوّل ما يمكن أن ندعو إلى تغييره هي نظرية أنه يجب أن يبقى اللاجئون الفلسطينيون في حال معاناة حتى لا ينسوا بلادهم وحقّ عودتهم. ثبت أنّ هذه ليست إلاّ وصفة لإسقاط حق العودة، مع استبعاد سوء النيّة بالطبع. لأنّ من يجوع ستكون أولويّته ملاحقة لقمة العيش ولن يعمل لإنفاذ حقّ عودته. ومع التعقيدات السياسية في المنطقة وعدم رؤية قريبة لتحقيق حقّ العودة؛ سيعمل اللاجئون على إيجاد بدائل متوقعة منهم كبشر كي يتوفّر الحدّ الأدنى لسبل العيش. وتجربة فلسطينيو أوروبا، الذين أضحوا أكثر فعالية في التعامل مع حقوقهم وفي تفاعلهم مع حقهم في العودة، رغم بعد الجغرافيا والظروف المعيشية المريحة نسبياً، تُثبت شيئاً ممّا نذهب إليه.
المصدر : مجلة العودة