متوكئاً على عصاه، يروي سامي كمال، وهو في العقد العاشر من عمره، حادثة تكاد تختصر تاريخ الهجرة الفلسطينية إلى لبنان ومنه، أو جوهرها على الأقل. فيقول إنه في عام 1949، أي بعد تهجيره إلى لبنان بعام واحد «جاء وفد كندي إلى مخيم برج البراجنة، وبما أنني كنت أتحدّث اللغة الإنكليزية بطلاقة، اختاروني لمحادثتهم. فعرضوا عليّ الهجرة إلى كندا مقابل عمل وقطعة أرض، إلاّ أنني رفضت رغم الفقر المدقع الذي كنت أعانيه. أجبتهم بأنني فلاّح، وأعرف أن العصفور الذي يتآلف وشجرة، يصعب عليه بعد فترة هجرانها، وهكذا أنا، لا أستطيع العيش بعيداً من شجرتي التي عشت إلى جانبها في ترشيحا (قضاء عكا)». سامي كمال الذي قاوم الهجرة قبل ستين سنةً، اضطرّ أبناؤه إلى الهجرة لأسباب اقتصادية في بداية السبعينيات، فغادروا إلى الخليج العربي على أمل العودة إلى لبنان. أما أحفاده فقد هاجروا إلى كندا عام 1990، أثناء حرب الخليج، أي لأسباب سياسية، والأمل بعودتهم بدا شبه معدوم.
إذن تبدأ الهجرة من فلسطين، إلى الدول العربية المجاورة لها، ثم الدول النفطية، فإلى الأصقاع البعيدة. وفي الحديث عن الهجرة يظهر اللاجئون الفلسطينيون في لبنان كأنهم هم المعنيون مباشرة بالهجرة دون غيرهم من اللاجئين. فاللاجئون إلى الأردن شهدوا استقراراً كبيراً في معيشتهم وحياتهم، وإن كانت الهجرة إلى دول الخليج، وخاصة الكويت، قد عرفها عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، منذ الخمسينيات من القرن الماضي. أما اللاجئون في سورية فلم يعرفوا الهجرة الواسعة، نظراً لاستقرار وضعهم الاجتماعي والسياسي، وكذلك لتعقيدات إجراءات السفر السارية، وهذا لا يمنع الحديث عن هجرة محدودة جداً لبعض اللاجئين الفلسطينيين فيها.
هجرة اقتصادية
لم يشهد عقد الخمسينيات هجرة فلسطينية واسعة من لبنان، وذلك لعدة أسباب، منها: إن الفلسطيني كان على أهبة الاستعداد للعودة، لذلك كان يرفض الابتعاد عن حدود وطنه. ورغم ظهور النفط في المنطقة، إلاّ أن الفورة النفطية والمشاريع المرتبطة بها لم تكن قد حدثت بعد. أما الهجرة إلى البلدان الغربية البعيدة فلم تكن مطروحة لأنها كانت تعني هجرة دائمة، والوجود العربي والإسلامي لم يكن راسخاً بعد، ما يزيد المخاوف على القيم من الذوبان في غياب أية إمكانية لإيجاد مجتمع موازٍ يحفظ التقاليد والقيم. إضافة إلى ذلك، فإن الاتصالات والمواصلات بين البلدان البعيدة لم تكن باليسر الذي هو عليه اليوم.
رغم ذلك، فلا يمكن أن نختزل بهذا النفي تلك المرحلة، فهناك بعض من هاجر إلى بلدان الخليج العربي خلال عقد الخمسينيات، لكن الحديث هو عن حالات، لا عن موجات من الهجرة. وهناك هجرة من النخب المتعلّمة في تلك المرحلة المبكرة، ومن فئة المدرّسين على وجه الخصوص، في وقت كانت فيه الدول العربية المنتجة للنفط قد بدأت تأسيس المدارس. فعلى سبيل المثال، فإن أول مدرسة ابتدائية في قطر تأسست عام 1951، وكان ضمن هيئتها التعليمية بعض من لاجئي لبنان، منهم فايز بيرقجي وسعيد سعيد. كذلك فإن الهيئة العربية العليا أخذت، منذ نهاية الخمسينيات، تؤدي دوراً مهماً في توظيف اللاجئين الفسطينيين في لبنان، من خلال استثمار علاقاتها العربية، وإيجاد فرص عمل للاجئين في البلدان العربية. وقد كان لمكتب الهيئة في بيروت وممثلها فارس سرحان دور مهم في محاولة إيجاد قاعدة اقتصادية للاجئين الفلسطينيين في لبنان من خلال تحويلات أقربائهم العمال في الدول العربية.
هذا الدور تضاعف في عقد الستينيات. وكان خيار إيجاد فرص عمل في الدول الغربية مطروحاً، لكنه لم يكن يحظى برضى طالبي العمل. فيُخبر علي شميسي أنه ذهب بداية الستينيات إلى مكتب الهيئة العربية ليطلب عملاً، وبعد فترة اتصل به موظف من الهيئة وأخبره أن المكتب وجد له عملاً في الدنمارك، وما كان من شميسي إلاّ أن رفض ذلك.
في عقد الستينيات تزايدت الهجرة لأسباب اقتصادية، حيث بدأ بعض المهاجرين القلائل الذين هاجروا في السنوات الماضية بزيارة أهاليهم، وليظهر أثر النعمة المستجدّة عليهم. وكذلك فإن التحويلات المالية أحدثت تغييراً ملموساً وواضحاً في حياة أهاليهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن من وطّد قدميه في بلدان الهجرة أخذ ينشط لتوفير فرص عمل لأقاربه. هذا فضلاً عن أن فترة الخمسينيات والستينيات شهدت نهضة تعليمية كبيرة في صفوف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الذين كانوا يحتلّون حيّزاً مهماً من عدد الطلاّب في الجامعة الأميركية في بيروت، رغم فقرهم وعوزهم، كل ذلك أوجد نخبة مهمة لا ينقصها سوى فرص عمل، وهو ما توافر في بلدان النفط الواعدة. وهناك من احتلّ مناصب مهمة في تلك الدول، على سبيل المثال لا الحصر رمزي مصطفى (وكيل وزارة في سلطنة عُمان). والهجرة إلى بلدان الخليج رغم أنها كانت بنيّة الهجرة المؤقتة إلاّ أنه لم يكن هناك تصوّر لعدد سنين هذه الهجرة، فالمهم أن المهاجر إلى تلك البلدان لم يعش الصدمة الثقافية التي عاشها من هاجر إلى بلدان غربية. ومع انتقال مطار بيروت الدولي وتطويره، أصبحت الرحلات بين بلدان النفط ولبنان شبه يومية، وهو ما شجع أكثر على الهجرة.
بالإضافة إلى بلدان الخليج العربي، برزت دولتان، أولاهما ليبيا التي كانت صورة السنوسي الضخمة تستقبل الآتين عند باب مبنى سفارتها القديم، الذي كان ملاصقاً لمبنى السفارة الكويتية حالياً. أما الدولة الثانية فهي ألمانيا، التي كانت تستوعب عدداً لا بأس به من اليد العاملة الفلسطينية. فهذه الدولة كانت تشهد نهضة صناعية بعد محو آثار الحرب العالمية الثانية، والحاجة إلى اليد العاملة دفعها إلى استقبال ملايين العمال، كان من بينهم الآلاف من العمال الفلسطينيين في لبنان الذين بدأوا يتوافدون إليها طلباً للرزق منذ بداية عقد الستينيات. لكن هذه الهجرة إلى ألمانيا كانت بأغلبها هجرة مؤقتة لا تتعدّى سنوات قليلة، بهدف تحصيل رأس مال يمكّن المهاجر من العودة إلى لبنان بمستوى اقتصادي أحسن مما كان عليه قبل هجرته، وهذا ما يُقرّه أحد المهاجرين الذين عادوا، هو محمد الصفوري من مخيم برج البراجنة. والجدير بالذكر أن معظم قوانين العمل المناقضة لحقوق العمال الفلسطينيين لم تكن قد صدرت بعد، إلاّ ما يخصّ المهن الحرّة. لذا فإنه يمكن القول إن العامل الفلسطيني في لبنان استفاد من تدفق رأسمال على لبنان في تلك الفترة، وهو ما أضعف الرغبة في الهجرة. كذلك فإن الروابط الاجتماعية، ذات الطبيعة الريفية، جعلت كثيراً من الفلسطينيين يفضلون العيش في ظل هذه الروابط وحمايتها.
ازدادت حاجة اللاجئين في السبعينيات، فتوسعت دائرة المهاجرين الفلسطينيين لطلب الرزق، وترافقت هذه الموجة مع الفورة النفطية، حيث يُلاحظ أن الكثير من العائلات الفلسطينية التي استفادت من أموال المهاجرين بدأت تغادر المخيمات، حتى إن بعض العائلات الممتدّة اشترت الأراضي وبنت المباني. فعائلة معتصم مثلاً اشترت أرضاً في الضاحية الجنوبية لبيروت عام 1974 وأنشأت مبنى عليها. وغادرت المخيم. وهنا مؤشران: الأول أن العائلة حاولت أن تحافظ على روابطها العائلية، لكنها في الوقت نفسه فضّلت تطوير مسكنها على أن تظل ضمن جوار كلّه تقريباً من الأصل القروي نفسه، أي من بلدة ترشيحا. وللمقارنة، فإنه في عام 1949 أرسل وجهاء ترشيحا في مخيم برج البراجنة إلى عائلة معتصم في حلب يدعونها للقدوم إلى المخيم ليجتمع «شمل أهالي البلدة». إذن فإن الهجرة كان لها تأثير قوي على تطوّر العلاقات الاجتماعية.
الهجرة السياسية
بدأت الهجرة السياسية الفلسطينية باكراً من لبنان، وكانت في البداية هجرة أفراد، قبل أن تبدأ الهجرة الواسعة مع بداية الحرب الأهلية عام 1975. فقبل هذا التاريخ أسس الفلسطينيون باكراً أحزابهم السياسية. وكانت الأجهزة الأمنية، وخصوصاً المكتب الثاني، تلاحق أعضاء هذه الأحزاب، بل هناك الكثير ممن قُتل أثناء الملاحقة أو تحت التعذيب مثل محمد راغب عام 1962 بعد انقلاب الحزب السوري القومي الاجتماعي وجلال كعوش عام 1966. هذا الجوّ البوليسي دفع بعض المحازبين إلى الهجرة نتيجة الملاحقة. فشوقي حيدر، وهو أحد أبرز الأعضاء الفلسطينيين في حزب النجادة في منطقة بيروت اضطرّ للهجرة إلى ألمانيا عام 1959. وكذلك فعل حسين ناصر، وهو من القوميين العرب، عام 1962 وهاجر إلى ألمانيا أيضاً.
أوسع الهجرات الفلسطينية بدأت عام 1975 مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، فخلال هذا التاريخ وبعده، حدث اضطهاد ومذابح بحق الفلسطينيين، من أبرزها: جسر الباشا وتل الزعتر. وبموازاة الهجرة الفلسطينية إلى خارج لبنان، كانت هناك هجرة فلسطينية إليه بهدف الالتحاق بفصائل الثورة الفلسطينية. في عام 1982 حدث الاجتياح الصهيوني لبيروت، ومن نتائجه المباشرة خروج آلاف المقاتلين الفلسطينيين عبر بواخر أقلتهم لدول عديدة.
فجأة أصبح الفلسطيني بلا حماية، وكل ما حوله يدعوه إلى القلق، من الاحتلال إلى عملائه. وحدثت مذبحة صبرا وشاتيلا، آلاف الفلسطينيين قُتلوا في أقل من ثلاثة أيام. حملات الاعتقال لم تتوقف بعدها، فكأنها عقاب لمن لم يمكّن المجرمين منه. عناصر الأجهزة الأمنية في بيروت يقتحمون يومياً المخيمات، يعتقلون المئات، والمشهد اليومي للشاحنات المكتظة بعشرات الفلسطينيين المعتقلين، أصبح اعتيادياً مخالفاً لكل ما هو عاديّ. السجون امتلأت، من رومية إلى اليرزة إلى بدارو، وليس سجن أنصار ببعيد. مئات الفلسطينيين اختُطفوا ولم يعودوا حتى هذه اللحظة. الأجواء كلها تدفع نحو هجرة جماعية.
يقول ممثّل منظمة التحرير الأسبق شفيق الحوت في مذكراته: «كانت تلك السنة بالذات، سنة 1983، وهي الثانية من ولاية أمين الجميّل، من سنوات الترويع والإرهاب لـ«تنظيف» بيروت الكبرى من مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا. فقد شهدت تلك السنة اعتداءات يومية، من جانب مسلحين تابعين للسلطة الحاكمة، على محلات ودكاكين للفلسطينيين، وخصوصاً في مناطق الفاكهاني والطريق الجديدة وصبرا. وقد بات من المشاهد اليومية المألوفة رؤية طوابير الشباب الفلسطيني الواقفة على أبواب السفارات الأجنبية، أي سفارات، سعياً وراء سمات دخول تمكنهم من السفر بحثاً عن الأمان ولقمة العيش. وعلمت سنتئذ أن دوائر الأمن العام اللبناني سجلت أعلى نسبة نزوح في تاريخ اللجوء الفلسطيني في لبنان، إذ بلغ عدد من غادروا عبر المطار قرابة 70000 فلسطيني توزعتهم الدول الإسكندنافية وألمانيا وبريطانيا. وقلة منهم تمكنت من الوصول إلى أميركا الشمالية وأستراليا. هذا في الوقت الذي ازدادت فيه أبواب السفارات العربية انغلاقاً وانسداداً عما كانت عليه من انغلاق وانسداد».
تبع هذه الهجرة هجرات أخرى أهمّها التي رافقت وتبعت حرب المخيمات (1985-1987)، وهي مستمرة حتى اليوم، وإن كانت بوتيرة أقل، بسبب توقّف معظم الدول الغربية عن منح اللجوء لطالبيها إلا في حالات نادرة. وتجدر الإشارة إلى أن الهجرة السياسية كانت هجرة دائمة. وإلى بلدان غربية بعيدة، وخصوصاً مع توقف معظم الدول العربية عن إعطاء تأشيرات عمل للفلسطينيين بعد حرب الخليج الأولى (1990).
الأضرار المترتبة على الهجرة
قد يضيق المجال عن ذكر الأضرار النفسية والاجتماعية التي خلقتها الهجرة، سواء للمهاجر وما عاناه من صدمة ثقافية باختلاف القيم والمعتقدات والمفاهيم، أو للمجتمع الفلسطيني في لبنان الذي عانى من جراء الهجرة اجتماعياً وسياسياً وحتى اقتصادياً. ومع ذلك يبقى الأثر الأهم أن الغالبية العظمى من المهاجرين هم من النخب والمتعلّمين، وهجرتهم شكّلت فراغاً من الصعب تصوّر إمكانية تعويضه. وللدلالة فقط، فإن أكثر من 40 أستاذاً جامعياً غادروا مخيم برج البراجنة إلى دول المهجر، فضلاً عن الفئات النخبوية الأخرى من أطباء ومهندسين وغيرهم. وقد يقول قائل إن التحويلات المالية للمهاجرين كانت الرافد المالي الرئيسي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وعلى رغم صحّة هذا القول المرتكز على إحصائيات قريبة من الدقة، إلاّ أنه مع ذلك فإن هذه النخبة لو بقيت في المجتمع الفلسطيني في لبنان لكان عائدها الاجتماعي والاقتصادي أكبر بكثير. وعلى كلّ، فإن الخبراء مثلاً يقدّرون التحويلات المالية العربية المهاجرة بنحو 25 مليار دولار، بينما يُقدّر العائد الذي يمكن أن تدرّه النخب العربية المهاجرة فيما لو بقيت في أوطانها بنحو 200 مليار دولار سنوياً.
ثقافة الهجرة
إن من أسوأ آثار الهجرة انتشار ثقافة الهجرة. تلك الثقافة، التي لها أسبابها، ولّدت تبلّداً لدى أجيال فلسطينية لا أمل لها سوى انتظار تأشيرة الهجرة. لائحة طويلة من الوظائف الممنوعة، واضطهاد سياسي، دفعت بكثير من الفلسطينيين إلى محاولة اختراع أمل، أو قُل وهماً، اسمه الهجرة. يبيع البعض بيته ثم يفرّ بسفينة عبر المتوسط لا يعرف مرساها. وآخر تعتقله الشرطة على حدود دولة إسكندنافية لتودعه سجناً، ومن ثم مخيّم «هايم» لسنوات، أي فرار من مخيم إلى مخيم.
يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حسب سجلاّت الأونروا أكثر من 400 ألف نسمة، وإذا أضفنا إلى سجلات الأونروا الذين ولد أبناؤهم في المهجر ولم يُسَجَّلوا فإن العدد يمكن أن يتجاوز 600 ألف. أما على أرض الواقع، فإن العدد الفعلي للاجئين الفلسطينيين في لبنان يتراوح ما بين 200 ألف و250 ألفاً، أي نحو ثلثي اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هاجروا في وقت سابق.
حينما يفقد الإنسان مفاتيح بيته، تصيبه حالة من الهستيريا وهو يبحث عنها. هو التعلّق بالمكان، كما يقول علماء النفس. أمّا أن تنتقل جماعة من مكان إلى مكان إلى مكان، ولكلّ مكان بيئته وثقافته ومعيشته، فماذا يمكن أن يحدث؟ من حقنا أن نقلق على الهوية..
المصدر : مجلة العودة