لم يفاجأ اللاجئون الفلسطينيون في لبنان بالوثائق التي نشرتها قناة الجزيرة الفضائية, في النصف الثاني من شهر كانون الثاني/يناير الماضي، والتي جاءت تحت عنوان «كشف المستور» عن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
وجاء في الوثائق - من ضمن ما جاء - أن السلطة الفلسطينية تنازلت عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وتفاوضت مع الإسرائيليين على عودة ما بين عشرة آلاف أو خمسة آلاف لاجئ إلى فلسطين، على مدى عشر سنوات فقط. وهذا يعني أن عدد العائدين - إذا التزم الاحتلال طبعاً بهذا الاتفاق - سيكون من خمسين إلى مئة ألف لاجئ، ما يعني حكماً إسقاط حق ستة ملايين لاجئ فلسطيني في العالم.
ولم يفاجأ اللاجئون الفلسطينيون في لبنان بهذا التنازل الخطر، لأنهم استشعروا منذ اتفاق أوسلو عام 1993 أن قضية اللاجئين محل تفريط ومساومة، ولا سيما قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
معرفة وثيقة
فاللاجئون الفلسطينيون في لبنان، مثل غيرهم من مجتمعات اللاجئين، مراقبون بدقة للأحداث والمواقف، ويتمتعون بحس سياسي جيد، وسبق لهم أن عايشوا هذه الزمرة التي تقوم بالتفاوض مع الاحتلال، واحتكّوا بها سياسياً ومعيشياً أثناء وجود هؤلاء في لبنان، ولمسوا انحدار القيم الأخلاقية التي يتمتع بها هؤلاء، ولديهم معرفة بالصفقات المالية، والتجاوزات والسمسرات التي ارتكبوها.
فأحمد قريع (أبو علاء) رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني السابق، وأحد المفاوضين، ذُكر اسمه في وثائق «الجزيرة»، وكان رئيساً لمؤسسة «صامد»، وهي مؤسسة اقتصادية استثمارية تابعة لمنظمة التحرير ولحركة فتح، ويحتفظ اللاجئون في ذاكرتهم بالعديد من القصص والروايات عن فساده.
وياسر عبد ربه الذي أقام في بيروت، معروف جداً للاجئين بانحداره الأخلاقي والسياسي. ومنذ اتفاق أوسلو عام 1993، تخوف اللاجئون الفلسطينيون في لبنان على مستقبلهم، وشعروا بأنهم هم أول من سيدفع ثمن التنازل عن حق العودة. وازدادت مخاوفهم من خلال ما نشر من وثيقة عباس - بيلين عام 1995 التي فرطت بحق العودة، ثم بقرارات القمة العربية في بيروت عام 2002، ثم بخريطة الطريق عام 2003، التي اعتمدتها منظمة التحرير الفلسطينية قاعدةً أساسية في برنامجها السياسي، ثم بوثيقة جنيف عام 2004، التي حولت قضية اللاجئين إلى قضية سكن وإقامة، ووزعتهم على عدة دول.
ثم جاء البرنامج السياسي لفتح عام 2009 في المؤتمر السادس للحركة الذي ذكر عبارات إنشائية عن حق العودة ليؤكد مخاوف اللاجئين.
وأثناء الزيارات التي قام بها محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية إلى بيروت، كانت المواقف الصادرة عنه والحوارات التي يجريها تزيد اقتناع الفلسطينيين بالتنازل الخطر الذي قدمه هؤلاء.
فمحمود عباس قال في شهر آب (أغسطس) 2009 في فندق الحبتور في بيروت إن المفاوضات مع الإسرائيليين هي على عودة مئة ألف لاجئ فقط، وتداول مع بعض المسؤولين اللبنانيين في أفكار لمنح اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وثائق سفر صادرة عن السلطة الفلسطينية.
وهذا يعني الآتي:
- التخلي عن صفة «لاجئ».
- إسقاط مهمة الأونروا التي ترعى هؤلاء خدماتياً.
- تحميل السلطة اللبنانية المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية عن هؤلاء.
ووعد المسؤولون اللبنانيون بدراسة الأمر، غير أن الأحداث التي عصفت بلبنان أجلت الموضوع، مع الإشارة إلى أن فريقاً لبنانياً يؤيد وآخر يعارض، كل من منطلقاته. لكن يغيب عن بال مؤيدي هذا الاقتراح أن منح اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان وثيقة سفر صادرة عن السلطة سيؤدي إلى إبقائهم في لبنان، لا إلى عودتهم.
مخاوف تاريخية
يشعر اللاجئون الفلسطينيون في لبنان بأنهم الخاسر الأول والأكبر من المفاوضات الجارية بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الصهيوني ضمن إطار عودة اللاجئين، وذلك للأسباب الآتية:
1- إن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هم من المناطق المحتلة عام 1948، وبالتحديد من منطقة الجليل الأعلى، أجمل الأراضي الفلسطينية وأخصبها. إن هؤلاء يصرون على العودة إلى المناطق والمنازل والمزارع التي هُجّروا منها عام 1948، ويرفضون رفضاً مطلقاً العودة إلى قطاع غزة أو إلى الضفة الغربية.
2- إن الاحتلال الإسرائيلي يدرك أهمية اللاجئين الفلسطينين في لبنان، وموقع منطقة الجليل من النواحي الاقتصادية والجغرافية والعسكرية والديموغرافية، وهو يصرّ على رفض عودة أي لاجئ.
3- يتمتع اللاجئون الفلسطينيون في لبنان بمهارات وخبرات عسكرية جيدة، فهم قاوموا الاحتلال، وهاجموه طوال عشرات السنين، وصمدوا في مخيماتهم، وتصدوا لاجتياحه، وقدموا الشهداء والجرحى والمعتقلين، وبالتالي فإن عودة آلاف منهم إلى فلسطين تعني عودة فئة قوية ذات خبرة.
4- إن السلطة السياسية في لبنان ضعيفة، وبالتالي يعتقد الاحتلال الإسرائيلي وخلفه الدول الأوروبية والولايات المتحدة، أن هذه السلطة ممكن أن تخضع للقرار الدولي أو للضغط والإغراءات الدولية، وتقبل بإبقاء الفلسطينيين في لبنان.
المواقف الفلسطينية
من هذه الزاوية، تابع اللاجئون الفلسطينيون في لبنان الوثائق التي عرضتها قناة الجزيرة، واهتموا بها، وأخذت حيزاً واسعاً من نقاشاتهم وأحاديثهم.
وصدرت عدة مواقف سياسية فلسطينية أبرزها الذي جاء في بيان لتحالف القوى الفلسطينية واعتبر أن «هذه السلطة قدمت الدليل الملموس وأكدت المؤكد، أنها سلطة وجدت من أجل مصالح الاحتلال، والدفاع عن أمنه، ومن أجل تصفية القضية الفلسطينية. فهذه السلطة تخلت عن القدس، وأسقطت حق العودة، وقبلت ببقاء المستوطنات، وتساهلت في الحدود، وضربت المقاومة ولاحقت المقاومين، من أجل دولة وهمية وسلطة شكلية، في تناقض واضح مع أولويات شعبنا المتمثلة في التخلص من الاحتلال، وتحرير الأرض، وإنجاز العودة الشاملة، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على كامل التراب الوطني الفلسطيني».
أضاف البيان: «إننا باسم شعبنا في الداخل والخارج نؤكد أن هذه السلطة لا تمثل شعبنا، وهي غير مخولة للتحدث باسمه، وإن كل مسلسل المفاوضات الذي سارت به وكل التنازلات التي قدمتها، لا تعنينا في شيء، لأننا متمسكون بثوابت القضية الفلسطينية المتمثلة بالأرض والتحرير والعودة، ولأننا نعتبر أن المقاومة هي الخيار الاستراتيجي للمواجهة مع الاحتلال».
وشهدت المخيمات الفلسطينية في لبنان اعتصامات احتجاجاً على سياسة التفاوض التي انتهجتها السلطة، وكان أبرزها في الرشيدية والبرج الشمالي وعين الحلوة والبداوي.
لكن التفاعل السياسي لم يكن بالمستوى المطلوب بسبب تزامن الكشف عن الوثائق بالأزمة السياسية الحكومية في لبنان وبالتطورات والأحداث الميدانية.
وحاولت منظمة التحرير الفلسطينية قلب المعادلة فنفذت مجموعة من الأنشطة للرد على ما سمّته «أكاذيب الجزيرة», فنظمت اعتصامات في مخيمات الرشيدية وعين الحلوة وبرج البراجنة، لكنها جاءت هزيلة؛ لأنها جاءت على شكل أوامر ولمبايعة محمود عباس، ولم يجرؤ الموالون في بيروت على تنظيم مسيرة في مخيم شاتيلا للتضامن مع محمود عباس وسياسته التفاوضية، فدعت إلى مسيرة لإحياء ما سمّوه «ذكرى شهداء شاتيلا» في محاولة لإقناع الناس بالتظاهر.
لكن كل ما حصل من تنازل وتفريط وكشف وثائق في قناة الجزيرة وغيرها أعطى نتائجاً إيجابية، إذ إن المجتمع الفلسطيني في لبنان أكد تمسكه بحق العودة، ورفض أي شكل من أشكال التنازل، وهذا ما يلمسه زائر أي مخيم، حيث إن تحمل اللاجئ الفلسطيني لهذه المعاناة في لبنان هو مقابل عودته الحتمية المتمسك بها.