|
تفاقم العنصرية الامريكية ضد فلسطين والفلسطينين
* خالد الحروب
"الفلسطينيون ارهابيون, وهم شعب مُخترع لا وجود له":
هذا جزء من تصريحات اتحفنا بها المرشح اليميني المتطرف نيوت غنغريش الاكثر حظا
لتمثيل الحزب الجمهوري في الانتخابات الامريكية القادمة. غنغريش يرى انه لا يمكن
للولايات المتحدة ان تكون محايدة بين "دولة ديموقراطية" ومجموعة من
الارهابيين. هذه التصريحات المُنحطة اخلاقيا وسياسيا وتاريخيا لا تنتمي إلا إلى
نزعة عنصرية دفينة ضد فلسطين والشعب الفلسطيني الذي "اعترض" طريق تحقيق
ترهات الصهيونية المسيحانية التي ترى في قيام إسرائيل خلاصا سماويا ونبوءات من
شأنها تدمير هذا العالم برمته. لم يكد يتنفس العالم الصعداء لتخلصه من رعونة وجنون
ودموية جورج بوش الابن, حتى يأتي هذا الارعن ليخلفه, بعد عهد باهت لاوباما الذي
يبدو انه لن يكون سوى فاصلة معترضة في نص امريكي بالغ التطرف والوقاحة يسرع في
إنهاء الامبرطورية الامريكية. كيف يمكن ان يؤتمن شخص يمتلك هذا الجهل في التاريخ
ويستبطن هذا القدر من العنصرية على قيادة دولة عظمى في عالم يواجه مشكلات بالغة
التعقيد والصعوبة من الاقتصاد, والبيئة المتدهورة, والحروب التي لا تهدأ, والامراض
الفتاكة, والفقر المتفاقم, وانتشار التطرف؟ كيف ستكون نظرته مثلا نحو الصينيين
والهنود والامريكيين الجنوبيين وهم يتقدمون في العالم ويزيحون الولايات المتحدة
تدريجيا عن مركز الصدارة, بسبب عنجهية قادتها وفجورهم السياسي والاقتصادي
والعسكري؟
يتحدث غنغريش عن ضرورة عدم وقوف السياسة الامريكية على
الحياد إزاء صراع بين "دولة ديموقراطية" و"جماعة من الارهابيين".
وهم اما ساذج وغبي او يفترض السذاجة والغباء وقصر الذاكرة في العالم كله. في طول
وعرض العالم وفي قاراته الست وعلى مدار عقود مديدة تحالفت تلك السياسة الامريكية
العتيدة مع اعتى الدكتاتوريات, وتواطأت مع انظمة مُستبدة وحكومات قامعة لشعوبها, ووقفت
ضد تيارات الديموقراطية والحرية لأنها تعارضت مع مصالحها في هذا البلد او ذاك. لا
يحتاج غنغريش إلا لقراءة خطاب منافسة في الرعونة والانحطاط السياسي جورج بوش الابن
الذي اعترف في خطاب شهير عام 2003 ان الولايات المتحدة ساندت الانظمة المُستبدة في
الشرق الاوسط وتحالفت معها ضد تطلعات شعوبها نحو الحرية والانعتاق والانفتاح
السياسي. ولا يحتاج كشف النفاق السياسي الامريكي في هذه المسألة كبير جهد. لكن
الغريب وما يحتاج إلى تأمل هو عمق وتأصل النزعة المعادية لفكرة فلسطين وفكرة
الفلسطينين كشعب والتي يبدو انها ضاربة الجذور في المخيلة السياسية الامريكية بل
والشعبية ايضا بسبب الضخ الاعلامي المتواصل على مدار اكثر من قرن من الزمن.
في تأمل عمق هذه النظرة المعادية للفلسطينين وكيف شكلت
الاطار العام للسياسة الامريكية إزاء الصراع مع اسرائيل نحتاج للعودة إلى الكتاب
القيم للباحثة الامريكية كاثلين كريستيسون عن التصورات الامريكية عن فلسطين, والذي
نشرته عام 1999 بعنوان Perceptions of Palestine: their influence on
the U.S. Middle East Policy. في هذا الكتاب المرجعي تقوم كريستيسون
بالحفر في آركيولوجيا المخيلة الامريكية وصورها الشوهاء عن فلسطين والفلسطنيين. وتعود
إلى بدايات تشكل تلك المخيلة على خلفية كتابات الرحالة الامريكيين إلى فلسطين في
القرن التاسع عشر وشكلت إحدى أهم الأرضيات المؤسسة للتصورات الأمريكية العامة عن
فلسطين. اهم تلك الكتابات التي انتشرت بشكل واسع النطاق في الولايات المتحدة كانت
تلك التي نشرها الرحالة العنصري مارك توين عن فلسطين. ففيها لم يكتف بوصف "السكان
المحليين" بأنهم "شحاذون قذرون بالطبيعة, أو بالفطرة, أو بالتعلم",
ردد المقولات الصهيونية عن فلسطين الجرداء وقراها الكالحة وسكانها البلهاء, مقابل
الإزدهار والزراعة والتطور التي حلت بالبلاد مع الهجرات اليهودية, مكرسا الصور
التي كررتها ماكينة الإعلام الصهيوني وكذا الأمريكي ونسجت حولها مقولة "أرض
بلا شعب لشعب بلا أرض". وبهذا فإن المخيلة الأمريكية كانت معبأة من ناحية
تاريخية ضد سكان فلسطين حتى قبل قيام المشروع الصهيوني.
وما تناقشه كريستيسون في كتابها أنه بالإضافة إلى
التصورات الكريهة التي رسمها هؤلاء الرحالة والمؤرخون عن فلسطين والفلسطينين, فإن
خلفية الاعتقاد المسيحي البروتستانتي حول البعد الديني لقيام دولة إسرائيل خاصة في
أوساط المسيحية الصهيونية, كما الأثر الذي خلفته الهولوكوست على صعيد خلق تعاطف
عريض مع يهود أوروبا و "أحقيتهم بوجود وطن خاص بهم", كل ذلك يشكل
الأرضية الصلبة التي تنبني عليها السياسة الخارجية الامريكية سواء أكان منفذوها
ديموقراطيون أم جمهوريون. وخلاصة ذلك كله كان نشوء علاقة عضوية وطيدة بين الولايات
المتحدة ومشروع إقامة إسرائيل يتعدى بأشواط كبيرة ما يعتقده البعض من أن العلاقة
هي علاقة تحالف بين دولتين, بل إن ما يعرضه الكتاب هو أن إسرائيل تكاد تكون جزء من
"الحلم الأمريكي" على المستوى الشعبي والنخبوي على حد سواء, كما أن
الولايات المتحدة بالنسبة لإسرائيل ليست هي الحليف الأول فحسب بل الحاضنة
والمستودع العاطفي والتكاملي مع المشروع.
وتشير كريستيسون الى ان الإدارات الأمريكية المتعاقبة
كانت وما زالت غارقة في تلك التصورات المتخيلة عن فلسطين وشعبها, وهكذا لم تخرج
سياساتها النظر إلى الشرق الأوسط من خلال البوصلة الإسرائيلية. وفي كتابها هذا
تخصص فصلاً خاصاً بكل إدارة أمريكية منذ إدارة ودرو ويلسون التي أقرت ووافقت على
وعد بلفور, ثم إدارة روزفلت, فترومان, فإيزنهاور, ثم كندي وجنسون, ونيكسون وفورد, يليهما
كارتر وريغان وصولاً إلى بوش الاب في أوائل التسعينات من القرن العشرين. وإزاء كل
حقبة من هذه الحقب تدرس المؤلفة المؤثرات المحيطة بالرئيس, وشخصيات أعوانه
ومستشاريه وتأثرهم بالرأي العام وخلفياتهم السياسة والأيديولوجية, وتلاحظ مسايرتهم
للمزاج العام وخضوعهم له, بل ومزايدتهم عليه. نيوت غنغريش يواصل تلك المسيرة
البائسة لا غير.
المصدر: جريدة
الدستور الأردنية 14/12/2011
|
|